فشل الانتقال في السودان- أسباب الحرب وتحديات المستقبل

المؤلف: د. ياسر يوسف إبراهيم08.20.2025
فشل الانتقال في السودان- أسباب الحرب وتحديات المستقبل

إن أي تقييم عادل وقراءة منصفة للأوضاع الراهنة تقودنا إلى استنتاج بأن الحرب الدائرة رحاها في السودان، والتي دخلت عامها الثالث، هي نتاج حتمي لإخفاق القوى التي أُنيط بها تسيير المرحلة الانتقالية عقب سقوط النظام السابق في عام 2019.

بالإضافة إلى التصريحات العلنية الصريحة التي صدرت من بعض قادة تحالف الحرية والتغيير، والتي تضمنت تهديدا واضحا: "إما الإمضاء على الاتفاق الإطاري أو الحرب"، هناك العديد من الدلائل القاطعة التي تؤكد هذه الحقيقة المرة.

لقد كانت الفترة الانتقالية، التي تم التوافق بشأنها في الوثيقة الدستورية بين المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير، بمثابة فرصة ذهبية لنهضة البلاد نحو الاستقرار المنشود، والذي كان من شأنه أن يدفع قدما بمسيرة بناء الدولة الوطنية، تلك المسيرة التي طالما تعثرت خلال الحقبات السابقة من الحكم الوطني.

إلا أنه كان جليا لكل ذي بصيرة أن الأسلوب الذي انتهجته قوى الحرية والتغيير، من استهانة بالقانون واعتداء على الحقوق الدستورية، وسعي حثيث لتفكيك الجيش الوطني، وتمكين ميليشيا الدعم السريع، بالإضافة إلى التشبث بالسلطة بأي ثمن، كل ذلك كان ينذر بهذه النهاية المأساوية.

للإجابة على السؤال المحوري لهذا المقال، وهو: ما الأسباب الكامنة وراء فشل الانتقال الديمقراطي في السودان؟ يجب علينا بداية أن نعترف بحقيقة أن ما جرى ويجري في السودان ليس بمنأى عن مجمل المشروع الدولي والإقليمي الذي تم تنفيذه في مناطق أخرى مثل ليبيا واليمن وسوريا.

وسوف نعود لاحقا إلى هذا العامل الخارجي الهام، والذي ساهم بشكل كبير في خروج عجلة التغيير عن مسارها الصحيح، لتنزلق في دهاليز العنف والحرب المدمرة.

لكن أحد الأسباب المحورية التي أدت إلى إخفاق مشروع التحول الديمقراطي في السودان، وفي غيره من بلدان ما عُرف بالربيع العربي، يكمن في عدم الإدراك الكافي لطبيعة الحراك الذي أفضى، ضمن عوامل أخرى، إلى سقوط الأنظمة السابقة.

فقد أفرطت القوى التي تصدرت الاحتجاجات في تمجيد الذات، وبالغت في تقدير حجم إنجازها، متوهمة أن ما حدث هو ثورة حقيقية تضاهي الثورة الفرنسية، أو ربما تتفوق عليها في أهميتها.

فقد ساد في الأيام الأولى للتغيير في السودان اعتقاد بأن "ثورة ديسمبر المجيدة هي الأعظم في تاريخ البشرية جمعاء". هذه القراءة المغلوطة، والتقييم القائم على التمني، قادا إلى نتائج وخيمة، لعل أبرزها توقف العقل عن التفكير مليا في الخطوات التي يجب اتخاذها بعد النجاح في إسقاط الحكومة السابقة، لأن مجرد قيام الثورة لا يعني بالضرورة تحقيق النجاح المنشود.

هذا هو المأزق الذي حذر منه الفيلسوف كانط بقوله: "عن طريق الثورة يمكن أن نسقط استبدادا فرديا أو أن نضع حدا لاضطهاد يقوم على التعطش للنفوذ والثروة، ولكننا لن نبلغ بها إصلاحا حقيقيا لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكام مسبقة جديدة على غرار الأحكام القديمة لتشد إلى حبالها السواد الأعظم المفتقر إلى الفكر".

والإصلاح، بوصفه فعلا تدريجيا متأنيا، هو ما افتقدته جميع القوى التي ورثت الأنظمة القديمة، وعوضا عن ذلك، انساقت قوى الحرية والتغيير، تحت تأثير نشوة الانتصار الزائف، في تضخيم إنجازاتها المتواضعة، واستنزفت رصيد الثقة الذي منحه إياها الشارع السوداني.

السبب الثاني الذي قادنا إلى هذه الحرب الضروس يكمن في القصور البنيوي فكريا وسياسيا لدى جماعة الحرية والتغيير، فالمتأمل يدرك أن هذه القوى لم تكن تمتلك أي مشروع وطني للمرحلة الانتقالية سوى مشروع الاستحواذ على السلطة والتشبث بها، على حد قول عضو مجلس السيادة الأسبق محمد الفكي سليمان: "نحن نريد السلطة وسوف نقاتلكم حتى نبعدكم عنها"، وذلك دون أدنى شعور بالحرج الأخلاقي لمن يفترض فيهم أنهم سلطة انتقالية تتمثل مهمتها الأساسية في قيادة البلاد نحو التحول الديمقراطي السليم.

غير أن المعضلة الكبرى تكمن في انشغال التحالف بمعارك جانبية استنزفت طاقته المحدودة في التفكير والتخطيط، فدخل في صراع مع القوات المسلحة، التي يُفترض أنها شريكته الأقوى في تقاسم السلطة، ثم ما لبث أن انهار بنيان التحالف حين تفاقم الخلاف بينه وبين شركائه في حركات دارفور، الذين انضموا إلى السلطة بعد التوقيع على اتفاق جوبا.

فتحول حلفاء الأمس إلى أعداء يتبادلون الاتهامات في العلن، ويسعى كل منهم لإضعاف الآخر، فوقعوا في المحظور الذي حذر منه الراحل الترابي، حين كان في تحالف قوى الإجماع الوطني الساعي آنذاك لإسقاط نظام الإنقاذ.

"وهذه سنة بلاد التحولات والثورات كلها، تتحير شيئا ما عند التجاوز من التبشير إلى مرحلة التطبيق، يتمادى الثوار -خاصة بروح الصراع- فور ما يفاجئهم الانتقال، فيُصوبون المشارسة المنقولة من عهد الثورة إلى أنفسهم، إذ يهلك العدو المستهدف، فينقلب بعضهم يهدف بعضا".

السبب الثالث والرئيس في انحراف مسار الانتقال عن وجهته الصحيحة هو عدم امتلاك الحكمة الكافية للتعامل مع التركة القديمة، والتقليل من حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه القوى القديمة سلبا أو إيجابا.

لقد اندفعت قوى الحرية والتغيير، مدفوعة بروح انتقامية جامحة، إلى التنكيل برموز النظام السابق، وأعلنت على لسان قادتها أن شعارها تجاه جميع العناصر القديمة هو: (سيصرخون)، وذلك ردا على مبادرة البروفيسور إبراهيم غندور، رئيس المؤتمر الوطني، بأن حزبه سيكون (معارضة مساندة) للفترة الانتقالية.

أما السبب الرابع، فهو التدخلات الخارجية السافرة التي أفسدت مسار الانتقال وعمقت الانقسامات بين المكونات الوطنية، وعملت على استقطاب بعض الأطراف لتنفيذ أجندة لا صلة لها بالمصالح الوطنية ولا تدعم التحول الديمقراطي الحقيقي.

وقد نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية المرموقة، ذات النفوذ الكبير في صياغة سياسة الولايات المتحدة، أكثر من مقال وتحقيق تُحمّل الولايات المتحدة مسؤولية ما وصفته بـ: (إحباط الآمال الديمقراطية في السودان).

تعقيدات السودان

إذا كانت تلك الأسباب تُعتبر عوامل مشتركة في العديد من البلدان العربية المشابهة للسودان من حيث وضع الانتقال من نظام حكم إلى آخر، فإن الوضع في السودان يتجاوزها جميعا من حيث التعقيد والتشابك وحجم التحديات الجسيمة.

فقد كانت هشاشة الدولة تتطلب عقلية وطنية مستنيرة تتعامل مع تلك التعقيدات بحكمة وروية، وتعمل على تغليب المصلحة الوطنية العليا التي تبحث عن القواسم المشتركة، وفي الوقت نفسه تتعامل مع أي انتهاكات سابقة وفقا لنصوص القوانين وروحها.

لكن، ويا للأسف، كانت تلك القوى الهامشية المعزولة عن التأثير الجماهيري الفعلي تبحث عما يشفي غليلها الشخصي، وليس عن مداواة جراح الوطن الغائر، فلم تعمد إلى بناء الأجهزة العدلية المنصوص عليها في وثيقتها الدستورية، مثل مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة، وعملت على تعطيل المحكمة الدستورية حتى لا تراجع إجراءاتها التعسفية المخالفة للقانون، من اعتقالات عشوائية، ومصادرات خارج نطاق القوانين، وفصل لآلاف الموظفين من وظائفهم دون وجه حق.

ولم تنتبه هذه القوى إلى الاستحقاقات الكبرى والتحديات العظام التي تواجه البلاد، ومن بينها كيفية التعامل مع الحركات المسلحة التي انضمت إلى الحكومة، ويُفترض أنها تتحالف معها في كيان سياسي واحد.

وكان التحدي الأبرز يتمثل في انتقال هذه الحركات بجنودها إلى العاصمة الخرطوم، مما أدى إلى عسكرة العمل المدني السياسي، وتعطيل مشروع إدماج جنودها في القوات المسلحة، وهو التحدي الذي سيظل يواجه السودان حتى بعد انتهاء هذه الحرب الطاحنة: أي كيف يمكن تحويل هذه القوى العسكرية إلى قوى مدنية وأحزاب سياسية تعتمد على النضال السياسي السلمي لترسيخ مكاسبها وتحقيق استحقاقاتها السلطوية؟

يُضاف إلى ذلك الخطأ الإستراتيجي الفادح المتمثل في تمكين قوات الدعم السريع وتركها تتضخم وتتمدد تحت أنظار الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية المختلفة.

لقد أثبتت التجارب المتتالية أن الرهان على القوى الخارجية لن يكون مجديا في تثبيت أي قوى في السلطة، فقد كان تحالف الحرية والتغيير، الذي لا يمتلك امتدادا جماهيريا حقيقيا، يعتمد بشكل كامل على الدعم الخارجي لإضعاف حلفائه وخصومه على حد سواء، وهو الرهان الذي دفع الدكتور عبدالله حمدوك إلى استدعاء بعثة أممية بصلاحيات واسعة تُذكر بأيام الحاكم العام في السودان خلال فترة الاستعمار البريطاني.

وبدلا من أن تساهم البعثة الأممية في تنظيم الانتخابات والتقريب بين الأطراف المتنازعة في الساحة السياسية، فقد عملت على تمكين قوى هامشية واستبعاد أغلبية المكونات السودانية الفاعلة من المشهد السياسي برمته.

غير أن الخطوة الأكثر خطورة التي أقدمت عليها البعثة تتمثل في زرع بذور الفتنة والشقاق بين الجيش والدعم السريع، حين شجعت الأخيرة، بتأثير من تحالف الحرية والتغيير، على تبني وثيقة الاتفاق الإطاري، التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الفترة الانتقالية وأشعلت نار الحرب المستعرة.

واليوم، وبعد مرور أكثر من عامين على اندلاع هذه الحرب المدمرة، وبينما تبذل الحكومة السودانية جهودا مضنية لإعادة عجلة المسار الديمقراطي إلى مسارها الصحيح، لا تزال تلك القوى تقوم بنفس الأدوار المشبوهة التي قادت إلى اندلاع الحرب، وتتمادى في تضخيم عقلية إقصاء الآخرين، وتتبنى خطابات بالغة الحدة وموغلة في الكراهية والتحريض والاستفزاز.

والأدهى من ذلك أنها ترفض الاعتراف بكل هذه الحقائق الساطعة، على الرغم من المخاطر الجسيمة المتمثلة في التقسيم والتفتيت التي تُخيم على سماء السودان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة